تقرير :
في مشهد طقوسي مهيب، اختار المزارع علاء الدين النور، من مدينة الجيلي السودانية، تشييع آخر 7 شجيرات متبقية في مزرعته لشتول الجوافة بحرقها في النار، واستثمار أخشابها في صناعة كميات صغيرة من الطوب الأحمر، بدلاً من تركها تغرق بلا طائل في قلب النيل، أسوة بمزرعته التي كانت تضم -حتى قبل عامين فقط- 100 شجيرة مثمرة.
تعاني مدينة الجيلي التاريخية (48 كيلومترا شمال العاصمة السودانية الخرطوم) تنامي ظاهرة “الهدام” أو النحر، المتسببة في تآكل سريع لضفة النيل الشرقية بفعل التيار، مما قضى على مساحة 2 كيلومتر مربع من أخصب الأراضي، بما في ذلك كامل مزرعة علاء الدين.
أصل القصة
يقول الأهالي إن نحر أراضي الجيلي المشاطئة للنيل بدأت معاينته بالنظر عام 2005، ولكن بصورة غير ملحوظة، إلا لجمهور المزارعين، قبل أن يتحول المنظر بالكلية قبل عامين مضيا، سرع فيهما النهر من معدلات النحر، مبتلعا عشرات المزارع، ومهددا -لا المزارع فقط- وإنما كامل المدينة التاريخية والاقتصادية المهمة، حيث بات اليوم على بعد 400 متر تقريبا من مساكن كانت تفصله عنها 4 كيلومترات، بحسب تقديرات الأهالي.
وحسب الجزيرة نت ، قبيل أيام، كانت هناك مجموعة من السيارات المحملة بالحجارة، ضمن جهود تقودها لجنة أهلية لمكافحة الهدام، تسير أعمالها بالجهد الشعبي، وذلك ضمن معركة تخوضها الجيلي ضد الطبيعة، والوقت، والإهمال الحكومي.
تعد الجيلي إحدى كبرى المدن التاريخية، وتشير بعض البحوث الأثرية إلى أن عمرها يصل إلى 7 آلاف سنة، وتضم اليوم مقبرة وسرايا الزعيم التاريخي المثير للجدل الزبير باشا رحمة، المهددة بالزوال كونها ضمن أولى البيوتات المقامة بالقرب من النهر، في حين كانت وقت بنائها عام 1900 تبعد عن النهر بمسافة 3.5 كيلومترات، حسب معظم التقديرات.
وتعتبر المدينة -الواقعة على طريق قومي يربط العاصمة الخرطوم وموانئ التصدير في البحر الأحمر- من أكبر مزودي العاصمة بالفواكه والخضروات، وتضم مشروعات مهمة، أبرزها مصفاة الخرطوم للبترول، والمنطقة الصناعية الجديدة، وعدد من المصانع المهمة لإنتاج الحديد والسيراميك. وتقع جميع هذه المشروعات الاقتصادية بعيدا عن النيل، والمدينة التاريخية القديمة، التي يتهددها الغرق.
شرح الظاهرة
يصف الخبير في مجال المياه المهندس حيدر يوسف ظاهرة النحر (الهدام) بأنها ظاهرة طبيعية، تنجم عن حركة التيارات المائية للأنهار إما لأسباب ذاتية، أو نتيجة تعديات خارجية.
وقال، للجزيرة نت، إن الأنهار تغير من حركتها في حالة إقامة مشروعات على النهر، ويظهر ذلك عادة في تكون الجزر النيلية أو زيادة رقعة تلك القائمة أصلا، مشددا على أن علاج الظاهرة يتطلب فقط تغيير حركة التيار بتدخلات -أهلية أو حكومية- تشمل إقامة الكواسر أو الرصف بالحجارة. وحثّ أهالي الجيلي على أخذ المشورة العلمية، مخافة أن تؤدي تحركاتهم إلى تأثر مناطق أخرى في مجرى النيل.
بدوره، يرجح مقرر اللجنة العليا لمجابهة الهدام، عقيل أحمد ناعم، رجوع ظاهرة الهدام في الجيلي إلى تدخلات الإنسان، ولا يستبعد أن تكون الجسور النيلية الجديدة 9 -للجزيرة نت- أن جميع التفسيرات خاضعة حاليا لتقرير أعدته لجنة من وزارة الري السودانية، وتضمن إنجاز مسوحات مائية لحركة النيل (مورفولجيا النهر) عند منطقة الجيلي، ومن ثم إدخال كل البيانات في برنامج محاكاة حاسوبي، لاختيار أنجع الحلول.
الجهد الشعبي
ويشدد مقرر اللجنة على أن عنصر الوقت هو العامل الحاسم في معركتهم ضد الهدام، أو معركتهم لأجل البقاء. وقال للجزيرة نت إنهم يتحركون بالجهد الشعبي، لحين لحاق الحكومة بمساعيهم، لا سيما أن فصل الفيضان على الأبواب، مما يعني أن أي تأخير قد تكون عواقبه وخيمة، ويعطل من أعمالهم، ويسمح للنهر بالتوغل في اليابسة بصورة أكبر.
وأسندت محلية بحري (التابعة لحكومة ولاية الخرطوم) اللجنة بعدد يسير من الآليات (9 آليات)، في حين يتعين على اللجنة والأهالي اليوم زيادة هذا العدد عن طريق الإيجار، مع الاستمرار في تزويد الآلات الحكومية منها بالوقود وأعمال الصيانة، بجانب تحفيز السائقين لتسريع وتيرة العمل.
وبدأت اللجنة، بحسب ناعم، في حلول إسعافية تتضمن إقامة كواسر للتيار، في محاولة لتغيير مجراه بعيدا عن ضفة المدينة.
وتقوم الفكرة على إقامة ردميات في 4 مناطق بمواصفات خاصة قوامها الحجارة، بعمق 10 أمتار -على أقل تقدير- داخل النهر، لتكون حاجزا بين النهر والضفة.
وتتضمن جهود اللجنة كذلك إقامة ردميات بين المسافات الفاصلة بين الكواسر، لكسر الضفة ذاتها، بمعنى تحويل الضفة التي أخذت شكل الزاوية القائمة بفعل حركة النهر إلى تسطيح التربة بزاوية حادة، يجري رصفها بالحجارة، في محاولة لحماية الكواسر، وتقليل معدلات النحر.
المصروفات
استقدمت اللجنة -حتى وقت كتابة التقرير- 50 شحنة حجارة، بواقع 80 ألف جنيه سوداني لكل شحنة. وتبلغ مصروفات اللجنة اليومية، بحسب تقدير ناعم، نحو 1.5 مليون جنيه سوداني (2500 دولار تقريبا) بحسب أعلى تسعيرة قدمتها البنوك السودانية في تعاملات نهاية الأسبوع الماضي.
يقول ناعم إن اللجنة تتحرك بالجهد الشعبي، معتمدة على تبرعات أهالي المنطقة بالسودان والمهاجر، إضافة إلى أنه تقرر مساهمة كل أسرة في المدينة (حوالي 3 آلاف أسرة) بـ50 ألف جنيه، وفي الطريق هناك تحركات لإقامة نفرة شعبية، يتم خلالها دعوة كافة الجهات الرسمية والشعبية لتدارك المدينة.
وأبدى عقيل دهشته من ضعف استجابة الدولة وشركات البترول لتحركات الأهالي، وقال إنه توقع -في أقل تقدير- إعلان حالة الطوارئ لصالح نجدة الجيلي.
وتابع “بعيدا عن التحرك الحكومي، إذا حصلت المدينة على حصتها من برامج المسؤولية المجتمعية للشركات العاملة في أرجائها، لنجحنا في تمويل المشروع الإسعافي بالسرعة المطلوبة”.
معركة مصيرية
على ضفة النهر الخالد، وعلى وقع ضجيج الآليات، يقف عقيل وعلاء الدين وعضوية اللجنة وجمهرة من الأهالي يحاربون بوسائل محدودة ظاهرة الهدام التي تحدث أمام ناظريهم، خشية فقدانهم مدينتهم التاريخية، وتحولهم إلى مهجَّرين داخل وطنهم، بعدما فقدوا خلال عامين مزارعهم الخصبة، متحولين إلى مستوردين للخضروات والفواكه بعد أن كانوا أكبر مصدريها إلى أسواق الخرطوم.
المصدر : الجزيرة