كما في الدراما الاغريقية ، كان القدر هو الذي يقود خطواتي في شوارع أثينا تلك الأمسية الدامعة بالمطر .. وكنت أمضي إلى المأساة بنفسي ، وأجهل أن ستارة المشاهد الأليفة ستنفتح فجأة على مشهد يوقظ أحزان القلب الموغلة في الأعماق .. ويخرج عرافات الذاكرة من أوكارها في بوح مرير ، أين منه بوح عرافات (دلفي) ..
كما في الدراما اليونانية ، لم أكن أدري أن أمسية التسكع الهادئة تلك ، ستتحول إلى طعنة مسددة بإتقان نحو صدر النسيان .
لا إدري ما الذي قاد خطواتي من “ساحة الدستور ” (السينتاغما) إلى شارع (الستاديو) ، سرت طويلا تحت رذاذ المطر الشفاف كدموع سرية ، حتي وصلت إلى ساحة (أمونيا) ، وتابعت تجوالي فيها .
كنت أحدق في و جوه الناس ، ووجوه الاشجار ، ووجوه الجدران والأرصفة والأعمدة والسيارات .. وكانت المدينة تنزلق إلى الغروب ، وكنت أنزلق إلى سكينة نفسية لها مذاق الغيبوبة العذبة ، حين وقعت نظراتي مصادفة ، علي لافتة معدنية من كلمات ثلاث تقول : (فندق الملك مينوس) ! كانت العبارة مكتوبة بحروف لاتينية نحاسية صفراء ، وملصقة علي جدار رخامي صلد ، لا نا فذة فيه ، ولا شهقة ! وكان ضؤ الغروب الشاحب ينسحب عن ساعة (أمونيا) الممتدة أمامي ، كما ينســحب اللون من الوجه لحظة الدخول في الإغماء .. ودخلت في الصحو دفعة واحدة !
” فندق الملك مينوس ” !
إذن هنا سقط شهيد المنفى ، الشريف حسين الهندي ، ذلك الإنسان النبيل الذي لم ألتق به إلاَّ في سطور محبيه ، وعيون تلامذته .
وفكرت بأ سى : لو كنت على هذا الرصيف قبل شهر ، لصافحته ، وخيِّل إليَّ أنني أسمع غراب “إدغار آلن بو ” ينعق : ” لن يكون ذلك بعد اليوم ” ..آه ، لن يكون ذلك أبداً .
لماذا قادت المأساة خطواتي إلى هذا المكان ؟ توهَّمت – بل تأ كَّدت – أنني أسمع الضربات التقليدية للقَدَر ، التي ترافق رفع الستارة في المسرح الإغريقي الدرامي .. هذه الأمسية ، تمزقت الستا رة عن جرح شاسع ، ينبض كفاحا معذبا ، جرح إسمه ” شهداء المنفي العرب ” .
بدأت أتأمل المرئيات بعين جديدة ، هذه الساحة بالذات ، تجمع شمل الناس الذين عاش الشريف الهندي لأجلهم ، ومات وسطهم .
إنها ساحة البسطاء ، يهرولون وراء لقمة العيش والحُلم ، وجوه طيبة ، وجوه كادحة ، وجوه معذَّبة ، وجوه أدمتها قسوة الواقع ، وزرعت في حناياها بعض شراسته ؛ وجوه كسرها الزمن . أيد خشنة تقبض علي خبز الأسرة ، وتختفي تحت المطر . ساق مقطوعة ، وعكاز قافلة من المتعبين والخاطئين والأبرياء ، والناشلين الصغار والمساكين ، والحائرين الذين يجهلون قراءة أعماقهم ، وربما قراءة الجريدة !
من أجل هؤلاء يعمل المناضلون جميعا ويتشردون. ولأجلهم نذرالشريف الهندي حياته ، وكان موته بينهم ، محاطا بزحامهم وعذاباتهم وأفراحم وأحلامهم المتواضعة الصغيرة … بحجم طابع البريد .
كما في الدراما اليونانية ، كان القدر يقود خطواتي تلك الأمسـية الأثينية الماطرة ، ليسمِّرني أمام لافتة عادية ، تحرك في النفس مأساة عامة غير عادية .. إسمها (شهداء المنفي) ، مأســاة فجَّرتها في نفسي ، ذكرى إنسان عمِلْت في منبر يحمل بصماته ، ولم أعرفه ، ولم ألتق به ، وها أنا أوزوره ذات ليلة ماطرة … بطريقة رمزية موجعة ، أتلفت حولي كمن كان يمشي أثناء نومه ، وأستيقط فجأة ..
أمام مدخل الفندق أربعة أحواض تضم نباتات خضراء .. وها هو الباب الدوار الذي إجتازه ماشيا ذات غروب ، وغادره محمولا .. وكالمسحورة ، وجدتني أدخل إلى بهو الفندق ، عم كنت أبحث ؟ عن صوت ؟ عن ظل ؟ عن شبح ؟ لا أدري . كانت المرئيات شديدة الوضوح كما في الكوابيس ، ردهة الفندق رمادية الجدران ، وأرضها أيضا رمادية المرمر .. إلى اليمين سبورة تحمل بعض الاعلانات والأوراق ، توقفت أمامها كأنني توقعت أن أجد رسالة أو إشارة ، لعل الإشارة كانت هناك ، لكنني لم أُحسن قراءتها .. وكلها مكتوب بالألغاز (أم باليونانية ؟!).. وثمة سِلِّم تعلوه نجفة كبيرة ، يقود إلى الغرفة 222 ؟ .. إلى اليسار طاولة الاستقبال المستطيلة جدا ، وخلفها رجل يحدق في وجهي بفضول ، ولعله الرجل ذاته الذي استقبله منذ شهر . وخلفه ، أعلى الحائط ، جدرانية تمثل رواقا إغريقيا بأعمدته النافرة ، وباحاته وأقواسه .
ويســألني الرجل شــيئا ما باليونانية ، لعله: “ماذا تريدين ؟” .. قلت له بالعربية : ” لا أعرف بالضبط ” ! وغادرت الفندق ، وقرب الباب ثمة طاولة تتوسطها آنية نحاسية للأزهار ، ولاحظت أن الورود فيها كانت ميتة .
ماذا أريد من الفندق؟ إنه مجرد فندق آخر (آه ، ليس تماماً) . يتدخل المنطق المحايد: حسنا . إنه نموذج آخر لسلسة (فنادق الغربة) اللامتناهية ..
غادرته وتوقفت قليلا أمام بائع الألعاب المجاور . فبائع التذكارات . فالصيدلية .. وموكب الكادحين على الرصيف العتيق ، يكاد يجرفني كالموجة . بدأ كل شيء رمزياً تلك الأمسية . بائع الألعاب .. للعبث ؛ بائع التذكارات .. للرومانسية ؛ الصيدلية للذين ما زالوا يحاولون جاهدين مداوات أوجاع الوطن . والجماهير تمضي وقلما تلتفت إلى أوجاعهم إلاَّ بعد موتهم ! ..
وصار المطر ينهمر منتحباً ، وبائع الصحف لملم أشياءه ، والناس يركضون مسرعين في الاتجاهات كلها. قلت لنفسي : تفرقت الجنازة مؤقتاً، فعودي إلى وكرك في هذه المدينة ، واحجزي لنفسك غرفة في فندق الغربة ، كأن يكون رقمها 222 !
مشيت من جديد باتجاه ساحة (أمونيا) ، وكأن البائع العجوز للأشرطة المسجلة (الكاسيت) تعاطف وهمِّي ، وها هو يقدم لي رشوة باللغة العربية: أم كلثوم تصرخ (آه) بكل ما في حنجرتها من طاقة على الاحتجاج !
لم تعد الـ (آه) تجدي .. لقد تجاوزنا هذه المرحلة منذ زمن بعيد ، ونضجت الجراح على أشجار الغضب ، وحان قطافها !
كما في الدراما الإغريقية ، الموت الفردي يتسع ليشمل الجماعة بمدلوله . واستشهاد الشريف الهندي في الغرفة 222 ، على بعد أمتار مني ، يذكرني باستشهاد مئات من رفاقه ، في بقية غرف الوطن والمهجر والمنفى .. من الغرفة رقم 1 إلى الغرفة رقم ( لا نهاية ) . هذا يموت في المعتقل بين يدي سجان الوطن ، وذاك يموت في المنفى بين يدي سجان الغربة . هذا يقتل برصاصة القمع ، وذلك برصاصة صامتة من مســدس الغربة . هذا تغتاله كوارث الوطن وغصـاته ، وذاك كوارث الغربة ولوعاتها . أفكر – بحنان – بعشرات من أحبائي ، وأصدقائي العرب الذين هاجروا من أوطانهم ، لمواصلة الكفاح من أجل ذلك الوطن . وأفكر – بحقد – بعشرات من قراصنة الوطــن المقيــمين على أرضــه ، يمتصون دم ترابه ، وضَوْء شبانه وفرحة أهله .. ويحتكرون ثماره .
ذلك الشهيد في فندق الغربة ، مد يده من نافذة غرفته المعتمة ، ليفكَّ جرحي قطعة بعد أخري .. وها أنا أتذكرهم صديقاً بعد الآخر ، أولئك الذين قد يموتون في فنادق الغربة قبل أن يشهدوا فجر تحرر أوطانهم … أولئك الذين ضحوا بأموالهم وبيوتهم وأسرهم وسلامتهم الشخصية ، ورفاق طفولتهم ؛ ورضوا بالغربة وعاء مراً للنضال العذب .
ذلك الشهيد في (فندق الغربة) ، الذي مات وهو يمارس الأهداف التي طالما آمن بها … ذكرني أيضاً بالوجه الآخر البشع للغربة ، كما الضوء يذكِّر بالظلمة ، والشيء يذكِّر بنقيضه . تذكَّرت (غربة) الذين يغادرون أوطانهم لتدميرها من الخارج ! إنهم الوجه الآخر لقراصنة الوطن .. وهم يتسترون خلف الشعارات ويتشبهون بالمناضلين الحقيقيين دونما جدوى ، ويصنعون من الكلمات والنظريات قفازات لممارسة السرقة !
ما كل من غادر وطنه مات شهيداً . ثمة فارق بين القتيل والشهيد . وبين القاتل والبطل . وثمة فارق بين الذين يهاجرون للكفاح من أجل الحق ، والذين يهاجرون للبطر والنسيان .. والهجر أو للتخريب .
أنه الفرق الذي لا ينسى بين شــهداء الوطن والمنفى . وبين قراصنة الوطن والمنفى . ثمة فارق أيضاً بين المجاهدين في (الخارج) ، واللامبالين في (الداخل) ، فالمجاهد المغترب لم يغادر وطنه حقاً .. ما دام الوطن يســكنه في أعماقه ، أما اللامبالي ، فإنه يقطن الوطن فقط ، دون أن ينتمي إليه حقاً .. أو يعي ذلك الانتماء ..
لماذا قاد القدر خطواتي تلك الليلة ، إلى هذه المتاهة من الخواطر والأحزان ؟ وبعدما كنت سائحة هادئة ، تحولت في ومضة عين إلى غاضبة ومقهورة ، وجراحي اللاملتئمة تنزف ضد الذين يحولون الوطن إلى فندق للبيع ، ويقتلون المناضلين في فنادق الغربة . كل منا مرشح مهاجر .. ومشروع متشرد ، ما دامت ثمة أنظمة تغتال النبتات التحررية في الوطن العربي ، وتتآمر ضد كل من يصهر كفاحه ، من كفاح المناضلين في القارات كلها .
تذكَّرت كيف كففت عن زيارة لندن ، منذ اللحظة التي راودتني فيها فكرة الهجرة إليها .. من العنف البيروتي الأعمى . فجأة تحولت لندن في خاطري من مدينة عشقتها كسائحة، إلى منفى محتمل ، بل وشبه مؤكد ! .. وصرت اتجنَّبها وأخاف منها وأُحار ، أيهما أقل مرارة : الموت بلا معنى ، في وطن يحولونه إلى فيلم للرعب ، أمْ الموت في فندق الغربة .. ميتة مجدية وذات معنى ؟
إن موت هذا المناضل .. يفتح جرحاً عربياً عميقاً وشاسعاً ، زاخراً بالتراث النضالي لأمتنا .. موته نموذج للموت العربي المعاصر ، حيث الاستشهاد ممكن في كل مكان .. في الوطن .. والخندق .. وساحة الحرب .. وفندق المنفى ! وموته تذكير بالفجائع التي يجرها علينا بعض قراصنة الوطن ، من مقيمين مغتربين أيضاً ، بإصرارهم على سرقة الأرض بحجة (تحريرها).
هذا الرجل الذي وُلِد في أفريقيا وأحبها ، وحالف آسيا وحمل همها ، ومات في أوروبا ، يذكِّرنا بعشرات النبلاء أمثاله ، الذين تساقطوا قبله في الغربة ، وسيتساقطون بعده في الغربة ، كي يردوا الوطن إلينا من غربته ! لأجله ، ولأجلهم جميعاً أُصـَلِّي ، وصوتي الريح ، وقلبي قصبة مثقوبة … وأتساءل بحزن غاضب : تُرى من الشهيد القادم ؟ في أي منفى ؟ أي قدر ؟ أية غربة ؟ أي فندق ؟ وما رقم الغرفة هذه المرة ؟
إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 18 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 19 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 20 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 21 22إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 23 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 24 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 25 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 26 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 10