يقول شاعر الضمير الإنساني المعذب محمد مفتاح الفيتوري:
ربّما لم تزلْ تِلكُمُ الأرضُ ،
تسكنُ صورتَها الفلكيَّةَ..
لكنّ شيئاً على سطحها قد تكسّرْ !
ما تكسّر على سطح تربة بلادنا ، ونأى بها عن مسار العصر لم تكن بدايته نشوب هذه الحرب البشعة. حدثت بداية الإنحدار نحو الهاوية في العام 1983م حين قفز غول “الجبهة الإسلامية” يومئذٍ على مركب حكومة النميري المترنحة. أخرجوا من جراب حاويهم آنذاك قوانين سبتمبر سيئة السمعة والتي أذاقت شعبنا ما لم يتصوره عقل. وإمّا اغتصبوا السلطة بانقلابهم العسكري المشؤوم في 30 يونيو 1989م فارقت بلادُنا مسار العصر. لست بحاجة لأحكي التفاصيل التي يعرفها الكل من سرقة قوت شعبنا باسم التمكين وحروب جهادية في الجنوب وحروب الإبادة في دار فور وجبال النوبة والأنقسنا !
قصدت أن أقول بهذه المقدمة أن قد حان الوقت ليعي كل سوداني أنّ الحرب الجارية، أشعل فتيلها الكيزان بقصد تأديب شعبنا الذي صنع ثورة سلمية أطاحت بنظامهم. ما كانوا يصدقون الهزيمة. وقد تشدق أحد قادتهم بأنهم لن يسلموا السلطة إلا لعيسى المسيح ! ما حسبوا أن لجنة التفكيك عرفت مخابئ ما سرقوا من أموال ، وأن سلاح (التمكين) في طريقه إلى زوال. لم يصدّقوا أن كل العراقيل التي وضعوها أمام حكومة الدكتور حمدوك لم تفلح. فما كان من جناحهم العسكري بقيادة البرهان وعصابته من مجلس حفظ النظام – إلا أن قاموا بانقلابهم البائس الذي فشل في أن يستقطب عاطفة أحد. فكان لابد من إشعال هذه الحرب اللعينة!
لا ينفي تهمة إشعال الكيزان لهذه الحرب إلا أحد ثلاثة: كوز ما عرف الجوع والمهانة والتمييز طيلة حكم الإنقاذ. أو انتهازي ضعيف الإرادة والضمير، لا تهمه إلا مصلحته. أو ساذج تنطلي عليه معارك الوهم في الميديا والتي يصرف عليها تنظيمهم ملايين الدولارات. والأخير هو ما تصدق عليه عبارة (السواقة بالخلا) !!
مشكلة الكيزان أن انفرادهم بالسلطة فوق الثلاثين سنة ، ملأهم وهماً بأنهم لا غالب لهم. يقول اللواء أمن أنس عمر في أول فبراير 2023: (هذا الإتفاق الإطاري مقطوع الطاري ، نحن إن شاء الله عاهدنا شعبنا واخواننا كلهم بأننا سندفنه وندفن من وقعوه.) وهو أنس عمر نفسه الذي يخطب مدعياً: (ما في زول أكبر من الحركة الإسلامية. ما في زول أعرف منها. وما في زول أرجل منها كلو كلو. ما في زول في الساحة دي أرجل من الحركة الإسلامية)!
يقول المثل الشعبي السوداني: (السوّاي ما حدّاث). لم تمض أيام على تهديدات الرجل التي أطلقها جزافاً حتى وقع في قبضة الدعم السريع. كم كان ذليلاً ومنكسراً !! أنس عمر وقادة تنظيمهم الفاشي أبطرتهم السلطة والمال المنهوب فلم يقرأوا التاريخ جيداً. لم يتفكروا أنّ موسى الذي تربى في قصر فرعون كان قاصمة ظهر فرعون وجبروته كما يضرب المثل بهذا دائماً صديقنا الإعلامي خالد محي الدين. جاءوا بالدعم السريع لحماية السلطة ورأس النظام. أشركوه في جريمة فض الإعتصام. جعلوه طرفاً في انقلابهم على حكومة حمدوك المدنية! لكن .. ليس كل مرة تسلم الجرّة. فقد شق قائد الدعم السريع هذه المرة عصا الطاعة! أدان الإنقلاب ، بل رحّب بالإتفاق الإطاري الذي دعت له القوى المدنية. فكان الجميع قاب قوسين من قيام حكومة مدنية للعبور بالبلاد إلى مرحلة جديدة لو لا مراوغة البرهان وضباطه الذين وضح لشعبنا أنهم يتلقون الأوامر من تنظيم سياسي، لا من مؤسسة عسكرية!
رحب حميدتي بالإطاري وبالدولة المدنية. هل كانت مناورة منه كما ظن البعض؟ أذكر ما قاله حميدتي آنذاك بالحرف: (الآن الإتفاق.. الشي الماشي دا نحن يا اخوانا مؤيدنو. وماشين فيه. ودايرين نمرق من الورطة دي يا اخوانا..عشان كدة لو نحن كلنا ختينا يدنا مع بعض واتفقنا مع بعض مافي إنسان بستعمرنا. لكين بطريقتنا دي الإستعمار حيرجع لينا تاني.. لكن المرة دي بلقانا تحت الواطا.. ما بلقانا فوق!)
لقد تابعت في المنابر ما كتبه البعض عن الدعم السريع وقائده منذ بدء هذه الحرب. حاولت بحرص شديد تفكيك كتابات من يرجى منهم توعية الرأي العام. يؤسفني أن أقول بأن الكثير مما حفلت به الأسافير من مقالات و”لايفات” عن ظاهرة الدعم السريع إنما هو خطاب إنطباعي رغبوي. بل إن بعضهم يخلط متعمداً بين الدعم السريع كمليشيا صنعها الكيزان في حرب دارفور ثم استدعوها لتكون فصيلا في الجيش بقانون القوات المسلحة وبين الانتماء الإثني والجهوي لكل من ينتمي إلى قبائل ربما تمثل ثقلاً في قوات الدعم السريع. أمثال هؤلاء أغمضوا الطرف عن تجاوزات الجيش وجرائمه التي لم نر مثلها إلا عند الدواعش ، من بقر للبطون وقطع للرؤوس!
طبعاً سيبقى ملف أي جريمة جنائية ارتكبها جند الطرفين مفتوحاً ولا يسقط بالتقادم. أما أن تحرّض أقلام على الكراهية واستمرار الحرب وكأنهم يشجعون في مباراة لكرة القدم، فهذا من أسوأ مخرجات هذه الحرب.
في الأيام القليلة الماضية علق شعبنا آماله على قائدي الفصيلين المتحاربين: الفريق
البرهان والفريق حميدتي لانتهاز فرصة منبر جنيف الذي توفر له زخم دولي من قوى عظمى وبعض الدول التي ربما يكون لحضورها المشهد تأثير إيجابي في وقف الحرب وفتح المسارات الآمنة لإيصال مواد الإغاثة لعشرين مليون سوداني يتهددهم خطر المجاعة. استجاب حميدتي لمنبر جنيف ، بل إن وفده المفاوض قد وصل سويسرا بالفعل. بينما لا يعلم أحد حتى كتابة هذه السطور ما إذا كان الجيش بقيادة البرهان سيشارك في المفاوضات التي ستبدأ اليوم الأربعاء 14 أغسطس أم لا؟
وفي الجانب الآخر وفي خطوة لتأكيد حسن النيىة وإثبات موقفه المبدئي من الحرب وما أفرزت من تجاوزات قواته لحقوق الإنسان ، بل وموقفه من المستقبل السياسي للبلاد ألقى الرجل خطاباً أمس بالصوت والصورة، أكد فيه أنه أنشأ قوات للتصدي للتجاوزات في المناطق التي تسيطر عليها قواته ، ولحفظ أمن المواطن. كما أكد بأنه مع مشروع الدولة المدنية ومع غياب العسكر عن المشهد السياسي ، وقيام جيش وطني موحد. وختم بأنه يطالب بقيام لجنة وطنية أو دولية للتحقيق في تجاوزات الحرب!
إذا كانت السياسة هي فعل الممكن فإنّ قائد قوات الدعم السريع يكون قد أنجز هدفاً قبل أن تبدأ جلسات المؤتمر
!
أختم بأننا – وقد أخرجت الحرب أسوأ ما فينا – علينا أن ننظر إلى الوجه المضيء للقمر. على الداعمين للحرب أن يعرفوا أن الحرب أبشع ما ابتكر الإنسان لحل النزاع. وأنّ السلام يصنعه الشجعان ! إنّ شعبنا ينتظر نهاية هذه الحرب القذرة ، وبزوغ شمس فجر السلام. إن أكبر معركة تنتظرنا هي معركة بناء السودان الجديد.
إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 18 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 19 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 20 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 21 22إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 23 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 24 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 25 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 26 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 10