✍️ علي أحمد
نستلهم القصة المُعادة المُستعادة، والتي تحكي عن الكلب الذي وجد نفسه في محل أُغلق عليه من الخارج، وكان المحل كله مُحاطاً بالمرايا من أرضياته وحتى سقفه، وبمجرّد أن رأى الكلب انعكاساته على المرايا، أصيب بصدمة كبيرة، فقد رأى أمامه فجأة قطيعًا كاملاً من الكلاب التي تحيط به من كلّ مكان. كشّر الكلب عن أنيابه وبدأ بالنباح، فردّت عليه الكلاب الأُخرى التي لم تكن سوى انعكاسات لصورته على المرايا، فطفق ينبح وينبح ويقفز جيئة وذهاباً، مُحاولاً إخافة الكلاب المُحيطة به، فقفزت هي الأخرى مقلّدة إياه، وهكذا استمرّ الكلب المسكين في محاولة إخافة الكلاب وإبعادها دون جدوى.
وفي صباح اليوم التالي، عثر صاحب المحل على الكلب البائس ميتاً خالياً من الحياة، مُحاطاً بمئات الانعكاسات لكلبٍ ميتٍ أيضًا، إذ لم يكن هنالك أحد لإيذاء الكلب، فقد قتل نفسه بنفسه بسبب العراك مع انعكاساته.
كانت تلك قصة الكلب، وهي قصة صالحة أيضاً ومصير لكل من يُحدث نفسه ظنًا منه أنه يتحدث مع الآخر، وهذا ما ينطبق على (البرهان) في حديثه أمس الأول أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وقف البرهان في قاعة شبه خالية، انفض عنها المجتمعون قبل كلمته بقليل، ولم يكن هناك إلا وفد أو وفدين من (المغضوب عليهم)، والضالين، وموظفين بعصبة الأمم تحتم عليهم ظروف عملهم الجلوس في مقاعدهم غير ملزمين بالاستماع أو المداولة، مع وفده الهزيل المكون من ثلاثة ورابعهم جبريل، ويا ألطاف الله !
بدأ البرهان حديثه وهو يدور حول نفسه، يُكرر الجُمل والعبارات وكأنه يحدث نفسه بصوت عالي. كان حديثه خاليًا من أي مشاعر أو تعاطف حتى مع الناس الذين يتشكى ويستجدي التعاطف باسمهم، وكأننا أمام كائن من الخشب، لا قائداً ورط بلده وأذل شعبه وبعثره في كل وادٍ، بسبب مغامراته الطفولية وعبثه وشبقه السلطوي البليد، وشقاوته التي فاقت شقاء أشقى الأولين، فذاك عقر ناقة وهذا ذبح وطن بأكمله !!
لن أتحدث عن خطابه البارد والمكرور الممل، فلا شيء فيه صحيح، حتى يمكن أن نصوب الخطأ إليه، فهو خطاب ممتلئ بالأخطاء والخطايا، شكلًا ومضمونًا، وأي تصحيح أو نقد يُمكن أن يُقدم أمام كل هذ الكوم من الافتراءات والأكاذيب التي نطق بها الرجل الحربائي المعروف عنه اكتمال كافة شروط النفاق الشرعية في شخصيته، فهو يكذب حين يتحدث، ويخلف حين يعد، ويخون حين يؤتمن؟! ويمكن لمن أراد أن يضيف لها يدمر حين يحلم!!
غير أني لن أترك حديثه كله لأنه خليط من المراوغة والأكاذيب، فالكذب أيضًا يمكن أن تطبق عليه القاعدة الفقهية المعروفة، والقائلة بأن ما لا يدرك جُله لا يترك كله، فليس لأن حديثه كله أكاذيب لا تحتاج دحضاً أن نتركه، فلا بأس من أن ننعش ذاكرة الكذاب، ونقول له ان كنت كذوباً فكن ذكوراً.
النقطة الأولى محاولته تسفيه قوات الدعم السريع، ومحاولة وصفها للعالم بأنها محض مليشيا قبلية جاءت إلى الخرطوم من دارفور ذات ليلة مُظلمة غير قمرية في منتصف أبريل الماضي لاستلام السلطة والتحول إلى حكم القبيلة، فهددت أمن المواطنين وهي في طريقها لتهديد الأمن والسلم الدوليين، لذا هلموا أيها العالم وتصدوا لها، وصنفوها كمنظمة إرهابية عابرة للحدود !
هكذا تحدث الرجل الساذج إلى العالم، وكأن قوات الدعم السريع هبطت فجأة من السماء، وكأن العالم كان ينتظر حديثه ليعرف كيفية تأسيس هذه القوات، وتاريخ إضفاء الصفة الرسمية عليها قانونيًا ودستوريًا في العام (2017)، فأصبحت منذها قوات نظامية، مثلها مثل القوات النظامية الأخرى. كما يعلم العالم جيداً التعديل الدستوري الذي قام به البرهان بشأنها في العام (2019) فأصبحت كما هي عليه الآن، فهل يريد من العالم أن يكذبه عندما كان بأعلى سلطته الدستورية ويصدقه الآن وهو (عنقالي ساي)، محض انقلابي نازح مثله مثل بقية شعبه، بلا وثيقة دستورية ولا شرعية، وبلا قصر أو مكتب، أو أي مظهر شكلي يجعل حديثه مبرئ للذمة!
واما تصنيفها كجماعة إرهابية، فذلك ما أضحك الأمم وعصبتها عليه، فيكفيه عاراً على عاره أنه كان ينطق العبارة وعلى يمينه “علي الصادق” الناطق الرسمي السابق باسم خارجية دولة الكيزان المصنفة – وقتها- في لائحة الإرهاب، وعلى يساره “جبريل ابراهيم” المدير السابق لشركة “عزة للطيران” إبان عهد نظام الارهاب – قبل تمرده- والتي كانت تنقل السلاح للجماعات الارهابية في المنطقة، وتحوم حولها وحوله شبهة العلاقة مع الإرهابي “بن لادن”، وهي سبب طرد جبريل من بريطانيا، فلا أعرف لماذا (يمسخر) البرهان نفسه إلى هذه الحدود الأسيفة والمتدنية ؟!
تبقت نقطة أخرى، وهي أكثر فقرة إضحاكا وكوميدية في خطاب الرجل، وهي قوله أن الدعم السريع أطلق سراح المطلوبين للعدالة الدولية من السجون، قالها الرجل الخبيث وهو يظن انه بهذا يحرض العالم على الدعم السريع بوصفها قوات تعادي العالم وتستهزأ بعدالته الدولية!
ومن في البلد أذكى من هذا الولد؟!
البرهان المُتذاكي كان يتحدث وكأنه يتحدث أمام مقبرة لجثث توقفت وظائفها الحيوية عن التفكير والتدبير! فلم يخطر على باله إن أول سؤال يتبادر لذهن من يسمع هذا الحديث هو: لماذا هؤلاء المطلوبين موجودون بالسودان من أساسه؟ من منع تسليمهم إلى المحكمة الدولية؟ ولماذا لا تسلمهم الآن؟ وأين هم حاليًا؟ هل يعيشون بحرية في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع أم تحت رعاية الجيش واستخباراته وفي ثكناته وحمايته ؟!
ثم دعك من كل هذا، وحتى يكون حديثك متسقاً، أليس من باب أولى أن تقوم بتسليم (البشير – عبدالرحيم) وهما لم يهربا من السجن، بل يعيشان منذ ما قبل الحرب داخل السلاح الطبي، وهو يقع تحت سيطرة قواتك!
أفعلها لو كنت حريصا على العدالة الدولية عملًا بالقول السوداني الحكيم :”الجفلن خلهن أقرع الواقفات”، وهو مثل شائع من ذؤوبة حكمة انسان منطقة (النهر) و(البحر)!