علي أحمد
ما إن استمعت إلى التصريحات الصحفية التي أدلى بها وزير خارجية جيبوتي، “محمود علي يوسف”، في بورتسودان التي زارها أول أمس لتسليم رسالة خطية من الرئيس الجيبوتي إلى عبد الفتاح البرهان، حتى خطرت لي، “بصورة مقلوبة”، مقولة الإمام الراحل الصادق المهدي، الذي ذهب في منتصف تسعينيات القرن الماضي، والمعارضة السودانية ضد نظام الإخوان المسلمين على أشدها، بمعية وفد من حزبه إلى جيبوتي، والتقى هناك وفدًا حكوميًا قادماً من الخرطوم، تدشينًا لحوار سلمي عوضًا عن البندقية، فانهالت عليه لعنات المعارضين الجذريين (الراديكاليين)، لكنه يبدو أنه قد حصل على أكثر مما توقع من مفاوضاته مع كيزان الخرطوم، فأطلق مقولته التي سارت بها الركبان، قائلًا إنهم ذهبوا ليصطادوا أرنباً فاصطادوا فيلاً.
عندما علمت أن وزير خارجية جيبوتي سيزور السودان، ظننت أن بلادنا ستنال نصيب الفيل من هذه الزيارة، وأن الرجل بحكم أن بلده تضم المقر الرئيسي لمنظمة (إيغاد) ورئيس بلده هو رئيسها، قد جاء بمبادرة من العيار الثقيل، أي “بمواصفات الفيل”. فإذا بي أتفاجأ به وهو يُخرج لنا كالحاوي “أرنبًا” من قبعته، وأنه يتصرف كـ”بلبوس” متشدد وكوز متطرف، وكأنه طرف من أطراف الحرب السودانية وليس وسيطًا يُفترض به الحياد، حيث وصف قوات الدعم السريع بالمتمردة، وكان كل جزء من جسده يرقص فرحاً بانتصارات مدعاة للجيش!
كان يوسف مُدهشًا حين تحدث عن اقتراب ساعة حسم الجيش للمعركة، وكان يتحدث بغبطة عن النصر المؤزر (الكاذب) الذي حققته مليشيات الكيزان في حربها التي شنتها على الشعب في 15 أبريل من أجل استعادة السلطة التي نزعها منهم بثورة شعبية عظيمة لن تنطفئ جذوتها أبدًا، حتى لو سُلِّط عليه جيش قوامه أفيال أبرهة؛ دعك عن أرانب جيبوتي!
محمود علي يوسف، الذي شعرت للحظة أنه قيادي كوز بحزب المؤتمر الوطني المنحل والمنحط في آن، يراهن على عودة النظام السابق، ربما لأن المعزول البشير قد تبرع لبلده بمستشفى. أنصحه أن يخضع فيها لبروتوكول علاجي صارم فيما يتعلق بصحته النفسية والعقلية، إذ ربما لا يعلم أن ذلك عهد قد ولى، وأن من فات مات، وكل ما هو آتٍ آت، وأن الماضي لا يعود والتاريخ لا يعيد نفسه.
لكنه ينبغي أن يعلم أن السودان كدولة وليس كنظام حكم، هو من وقف بقوة مع جيبوتي حتى نالت استقلالها، ومنذ ذلك الوقت بنيت علاقات متينة بين البلدين قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية، لكن يوسف يريد أن يهدم كل ذلك بتصريحاته الغبية.
لقد ظلت جيبوتي منذ استقلالها تتخذ سياسة خارجية رزينة ومتوازنة قائمة على مبدأ عدم الانحياز والامتناع عن التدخل في شؤون الغير. وذلك رغم مجاورتها لبلدان شهدت وما تزال تشهد صراعات وحروبًا داخلية مثل الصومال وإثيوبيا، إلا أنها ظلت على الدوام تقف على مسافة واحدة بين الأطراف المتصارعة، ولم يسبق أن تورطت في تلك الصراعات رغم التداخل القبلي والعرقي بينها وبين تلك البلدان. لكن يوسف جاء إلينا من أقصى الشرق الأفريقي “يبلبس” بما لم يأتِ به البلابسة الأوائل.
ولأن جيبوتي هي المقر الدائم لمنظمة (إيغاد)، فإن هذا يُحتّم عليها مضاعفة حرصها على الحياد، ولكن تصريحات البلبوس (يوسف) هدمت معبد (إيغاد) على رؤوس الجميع. فالمبدأ الرئيس للمنظمة التي تستضيفها بلده قائم على التوسط في النزاعات التي تنشأ بين الدول أو داخل أي من الدول الأعضاء، وليس محاباة طرف على آخر.
إن تصرفات (يوسف) في بورتسودان أطاحت بأي دور مستقبلي لـ(إيغاد) في الوساطة، كما أنهت عهودًا طويلة من دبلوماسية بلاده القائمة على الرزانة والرصانة والحياد. وعلى المستوى الشخصي، قللت من حظوظه إن لم تكن قد قضت عليها تمامًا في الترشح لمنصب رئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي خلفًا لموسى فكي الذي ستنتهي ولايته هذا العام.
ويا ليوسف من “أرنب” بلبوس، نأمل أن يعيد النظر في تصريحاته ويعتذر عنها؛ فربما نعيده “فيلًا” مرة أخرى، وهيهات.
إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 18 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 19 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 20 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 21 22إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 23 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 24 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 25 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 26 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 10