احمد ود اشتياق
في توقيت ملغوم، خرج قائد كتيبة البراء بن مالك، المصباح أبوزيد طلحة، بخطاب حمل ما هو أكثر من الحماسة العسكرية. خطابٌ بدا وكأنه إعلان مواجهة مفتوحة مع قوى الثورة السودانية، وتحدٍ صريح للقيادة الرسمية في الجيش، ومبايعة غير مستترة للمشروع الإسلامي السياسي، في أكثر صوره صدامًا وتطرّفًا.
لم يكتف المصباح بتوجيه اتهامات لقوى الثورة والتنظيمات السياسية، بل لوّح صراحةً بالتصفية، مستخدمًا ذات اللغة التي استخدمها علي عثمان محمد طه في أيام سقوط الإنقاذ، حين أعلن عن “كتائب ظل” مستعدة للموت والقتل في سبيل المشروع.
اليوم، لا يتحدث المصباح عن ظلال غامضة، بل يظهر في وضح النهار معلنًا أن الكتيبة التي يقودها هي قوة مقاتلة تتبع للحركة الإسلامية، وتدين بالولاء لشيخها علي عثمان، وتردد الهتاف ذاته: “نحن كيزان”. ما يُثير الذعر في هذا التصريح ليس فقط مضمونه، بل السياق الذي ورد فيه: على مرأى ومسمع من قيادات الجيش، وفي وقتٍ تحاول فيه المؤسسة العسكرية تقديم نفسها ككيان وطني جامع، يخوض معركة وجود ضد التمرد المسلح كما تصفه القوات المسلحة .
لكن ما قاله المصباح لم يكن مجرد نشازٍ صوتيٍّ في لحظة انفعال، بل تصريحٌ يستمد جرأته من وقائع ميدانية تُشير إلى وجود تنظيم موازٍ داخل الجيش، يحمل تصورًا أيديولوجيًا محددًا، ويتحرك بثقة وكأنه يملك الشرعية.
هنا، يصبح حديث الفريق شمس الدين كباشي أكثر وضوحًا: “أي شخص داخل القوات المسلحة لديه تصور سياسي مختلف، فليخلع زيه العسكري”. بدا حديث كباشي وقتها وكأنه استباقٌ لتصدع داخلي، والآن تتجلى نبوءته؛ كتيبة بكامل عدّتها وعتادها تعلن أنها تتبع للحركة الإسلامية، وتتبنّى خطابًا سياسيًا محضًا لا لبس فيه، في تحدٍّ واضح لما يفترض أنه جيشٌ وطني غير مسيّس.
الخطير في المشهد أن خطاب المصباح لا يعكس فقط موقف قائد ميداني، بل يُفصح عن بنية كاملة تعمل ضمن الحرب الجارية بغطاء وطني، بينما هي في حقيقتها تعبئة أيديولوجية تسعى لفرض نفسها على المشهد السياسي بالقوة المسلحة. فالحركة الإسلامية، وقد طُردت من الحكم بثورة شعبية، تعود اليوم عبر السلاح، وتستغل فوضى الحرب لتستعيد تمكينها من بوابة “الجيش”.
هذا التداخل بين البندقية والعقيدة ليس جديدًا في التجربة السودانية، لكنه الآن يعود بأشكال أشد فوضى وخطورة. فالحرب، تحوّلت إلى مسرح لتصفية الحسابات التاريخية، ولتمكين أجندات أيديولوجية تُعيد السودان إلى ما قبل الثورة، بل وربما إلى ما قبل الدولة. فحين يُعلن فصيل مسلّح داخل الجيش أن ولاءه لتنظيم سياسي محدد، فإن هذا يعني أن الجيش لم يعد جيش الدولة، بل أصبح مظلّة لاختراق سياسي خطير، لا يهدد فقط مستقبل المؤسسة، بل وحدة البلاد كلها.
ما قاله المصباح هو تذكير صارخ بأن الحرب الحالية ليست فقط معركة ضد الدعم السريع، بل حربٌ متعددة الوجوه، يتسلّل عبرها القديم بكل ثقله الدموي، متدثرًا بشعارات الدين والولاء، ومرتكزًا على ترسانة عسكرية تموّلها الدولة، وتُشرعنها ظروف الحرب. إنها لحظة تتطلّب من كل القوى الحيّة في السودان وقفة صريحة. فإما أن ينتصر صوت الدولة المدنية الوطنية، أو تنفجر البلاد إلى جبهات لا نهاية لها، تقاتل فيها المليشيات باسم الله، وتموت فيها الثورة بصمتٍ مريع.