منعم سليمان
“الأيام بوصلة الحقائق، لا تخطئ الاتجاه”. لا أعرف من القائل، ولكنها مقولة تنطبق على حكايتنا مع الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش.
أذكر مطلع عام 2021، وكانت تجمعني به علاقة ود وتقدير واحترام. كنا نتحدث ذات مرة حول مسار الحكومة المدنية الانتقالية واستقرارها المرتجى، والمستقبل المشرق الذي كان ينتظر السودان. يومها، لم يكن يساورني، ولا كثيرين غيري، شك عميق في نوايا الرجل؛ فقد بدا كما لو أنه ينأى بنفسه عن مغامرات الانقلابات وميراث الطغاة.
وحين قلت له في سياق حديثنا الودود: “أرجو أن يتعلم الجيش من دروس التاريخ، وألا تتهور أنت بانقلاب”، قهقه مستنكراً وأجاب: “هل تظن أنني بهذه السذاجة لأحمل أوزار عمر البشير على ظهري؟” ضحكنا .. وانتهى الحديث.
غير أن الضحك، الذي كان ستاراً لنوايا مضمرة، لم يدم طويلاً.
لم تمضِ أربع سنوات على تلك الضحكة حتى صار الرجل نسخة أشد بطشاً من سلفه. فإذا كان عمر البشير قد استنزف البلاد ثلاثة عقود ليرتكب مذابحه وجرائمه، فإن البرهان اختصر الزمن، وفعل في أربعة أعوام ما لم يفعله الطاغية البشير في ثلاثين!
البشير قتل ما يقارب مليوني سوداني، أما البرهان فقد تجاوز الرقم بأضعاف. وإذا كان البشير قد شرد أربعة ملايين إلى معسكرات النزوح، فإن البرهان قد اقتلع خمسة عشر مليوناً من جذورهم، وبعثرهم في كل وادٍ.
وإذا كان البشير قد حصر جريمة إبادته في إقليم دارفور، فإن البرهان قد عمّم الإبادة على كامل الوطن، بل لم يتردد في استخدام أسلحة كيميائية محرّمة دولياً وسط التجمعات السكانية، مسطراً فصلاً جديداً من الوحشية الممنهجة!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل قاد خمسةً وعشرين مليون سوداني إلى هاوية الجوع والوباء والجنون، مفرغاً مفهوم الدولة من أي معنى، وجاعلاً من الوطن مسرحاً لموت بطيء ينهش الأجساد والأرواح معاً.
إنها حصيلة قاتمة لرجلٍ وعد ألا يحمل أوزار سلفه، فإذا به يبتدع أوزاراً أشد فداحة!
واليوم، وقد انكشفت أوراقه للعالم، يواجه البرهان ما لا مهرب منه: عزلة دولية خانقة، وعقوبات أميركية وأوروبية متلاحقة. وها هو يقف مطارداً منبوذاً، محاطاً بقيود السفر داخل الولايات المتحدة نفسها، وفق قرار وزارة الخارجية الأميركية الأخير الذي حدّ من تحركاته ووفده أثناء مشاركته في الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، فتخلّف الرجل وأرسل دميته التي يحرك خيوطها من على البعد.
إن رمزية هذا التقييد ليست مجرد إجراء إداري، بل رسالة سياسية صريحة: أن الطغاة قد يملكون الدبابات، لكنهم في النهاية يُطاردون بقيودٍ على الأقدام.
إن مسيرة البرهان تجسيد حيّ لمفارقات التاريخ السوداني: قائد يضحك واعداً بالسلام، فإذا به يكتب بدماء شعبه فصلاً جديداً من المأساة. لم يتعلم من دروس الأمس، بل اندفع ليكررها بأقسى صورة. وهكذا يتأكد أن الطغاة من العسكر، مهما اختلفت أقوالهم، يشتركون في المصير ذاته: عزلة، لعنة، وانهيار.
إن سقوط البرهان في العزلة الدولية ليس سوى انعكاساً لحقيقة أكبر: أن حكم العسكر مآله الخزي والخسران، وأن إرادة الشعوب لا تُقهر مهما اشتد القمع وتكاثرت الجراح. وستظل الدماء التي أُريقت شاهدة، لا على مأساة وطن فحسب، بل على يقظة قادمة، تُطيح بكل من توهّم أن السودان: حلماً لوالد، أو إرثاً لقبيلة، أو غنيمةً لعسكر.
إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 18 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 19 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 20 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 21 22إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 23 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 24 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 25 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 26 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 10






