بقلم : د. عثمان البشير الكباشي
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل خمس سنوات من رحيل خليفة اليعقوباب الشيخ هجو ود الماصع في العام 1930 من القرن العشرين ، في العام 1925 وفي قرية أم عشرة الكردفانية الوادعة الواقعة في ريفي أم روابة كانت القابلة المحلية تشد مع زوجة الشيخ عبد الله أبوعزة حبل الولادة ، ثم انطلقت زغاريد النساء معلنة ميلاد طفل جديد للقرية إختار له والده المشهور بالكرم والدين إسم محمد أحمد تيمنا برسول الله صلوات ربي وسلامه عليه.
لما بلغ سن الثامنة أخذ محمد أحمد لوحه وكتب عليه شيخه عبد الله ود العباس أول حروف المصحف الشريف جاءت الأخبار الحزينة من نواحي سنار تحمل نبأ وفاة الشيخ هجو ود الماصع خليفة الشيخ التوم ودبانقا . ولكن ومنذ سنوات من رحيل الشيخ هجو كان تلميذه الشيخ ود العباس وبأمر شيخه ا قد إنتقل إلى كردفان شيخا مجازا ومأذونا له بتعليم القران الكريم و تسليك المريدين الطريقة القادرية السمانية اليعقوباوية .
أجيز الطالب محمد أحمد أبوعزة في حفظ القرآن الكريم كاملا ، وماكان ذلك ليتم وفق تقاليد خلاوي القران الكريم السودانية إلا بعد إنجاز أربعة مراحل من تركيز الحفظ ، ختم الحفظ في المرحلة الأولى ثم (العودة المرة ) (والعودة الحلوة) ثم (التصنيت ) وهو تسميع القران كاملا بين يدى شيخ الخلوة دون خطأ ولا تعتعة مهما صغرت .
نحرت الذبائح وابتهجت أم عشر باجازة حفظ ابنها محمد أحمد .
ولكن الطريق وفق منهاج المتصوفة مايزال طويلا أمام الحافظ الجديد .
أخذ الشيخ محمد أحمد الطريق القادري السماني اليعقوبابي على يد شيخه عبد الله ود العباس وكما هى أعراف الخلاوي تحول الطالب المجاز محمد أحمد إلى مساعد لشيخه في التحفيظ والقيام بمهام تربوية ودعوية أخرى في الخلوة ، استغرق ذلك منه 18 عاما منذ عام قدومه الأول للخلوة في زيدان في العام 1933م .
الأهم عند شيخه تمام الاطمئنان على رسوخ تلميذه في السلوك الصوفي من أذكار وأوراد وآداب ، مع أخذ قدر وافر من التأهيل في إدارة الخلاوي وتعليم وإرشاد الناس .
ظل دائما في صحبة الشيخ ود العباس في زياراته المتكررة إلى رئاسة المشيخة في عمارة الشيخ هجو في سنار ،
تربى الشيخ محمد أحمد على أنفاس تراتيل نار القرآن الكريم وصيحة الذكر اليعقوبابي المتميزة ودروس العلماء في المسيد الكبير من أمثال الشيخ الأزهري إبن قبيلة المشايخة أحمد الملثم وغيره .
هناك وبعد موسم الزيارة السنوية لسنار تملكت أشواق المحبين السالك الجديد الشيخ أبوعزة فلبى نداء حج بيت الله الحرام وزيارة أسوة المؤمنين صلوات ربي وسلامه عليه.
ولما عاد إلى السودان جاءت التوجيهات للشاب الحاج محمد أحمد أبوعزة بالسعى لطلب العلم الشرعي على يد رموزه الكبار ومنهم الفقيه الكبير حامل لواء المالكية في زمانه الشيخ علي أدهم ، والذي ماكان يبدأ الدرس في مجلس علمه إلا بعد حضور تلميذه أبوعزة الذي رابط عنده ثمانية سنوات ، وحينما إستفسر طلاب حلقة العلم عن سبب انتظار الشيخ أبوعزة لبداية الدرس ، أجابهم الشيخ علي أدهم : بأن في حضوره تتكاثف البركات والأنوار تجعل مسائل الدرس تتنزل على كأني أقرأها من لوح مكتوب .
ثم درس الشيخ أبوعزة ألفية بن مالك في النحو وعلم المنطق وأصول الفقه وعلوم أخرى على يد الشيوخ عثمان الشنقيطي و سفيان الملقب (بثوري كردفان ) نسبة لسيدنا سفيان الثوري .
بعد ثمانية عشر عاما من الإعداد و التأهيل العلمي والتربوي والتزكوي صدر الإذن للشيخ محمد أحمد بفتح خلوته .
لم يكن أمر تأسيس الخلوة الصادر من الشيخ ود العباس متضمنا الميزانية والمصروفات والمباني والمرتبات والنثريات الضرورية كما هو حال الحكومات والمنظمات عند فتح المؤسسات الجديدة .
ولكن أمر التأسيس الصوفي حين وداع الشيخ لبدء مهمة خلوة جديدة يتضمن أمرين مهمين أولهما أخذ العهد والطريق بعد فترة تأهيل وإعداد علمي وروحي وعملي ، وثانيهما وصية مختصرة ملخصها : ( إذهب وافتح خلوتك وأوصيك بتقوى الله ونفع المخلوق لأجل الخالق )
و ( توكل على الله وحده وألزم أورادك ولا تقلق )
ووصية ثالثة أكثر اختصارا (أفتح مسيدك وانتظر سيدك ).
عندما بدأ النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين كانت نار القرآن الكريم قد إشتعلت في قرية أم عشر ، توافد إليها الطلاب من القرى القريبة ثم اتسعت سمعتها التي هى من سمعة شيخها الذي بدى قدوة يشع نورا وتميزا ووهجا .
أفاض من روحه عليهم
فأرث العزم في الكسالى
وصاح فيهم إلى المعالى
فأقبلوا نحوه عجالا
فمد آراءهم بشورى
ورد أقوالهم فعالا
وأوقدوا للقرآن نارا
تضيئ من نوره تعالى
نحو 75 عاما وحتى انتقاله في الرابع من أغسطس عام 2021 ظل الشيخ محمد أحمد أبوعزة مرابطا في مسيده، لايبارحه إلا نادرا ومضطرا ولأقل وقت ممكن .
أو في أيام محدودة من العام لزيارة شيوخه في اليعقوباب و زيدان .
بلغ عدد طلاب خلوته نحو سبعة آلاف طالب وهى بذلك تعد أكبر خلوة في العالم الإسلامي.
أولوية الأولويات ومهمة المهمات عند الشيخ أبوعزة هم طلابه .
سعادته وأنسه وراحته النفسية والبدنية أن يكون بينهم .
لا يشغله عنهم شاغل ولا يقدم عليهم أحدا ، مهما بلغت مكانته وعلت قيمته عند أهل الدنيا .
حينما يزوره رأس الدولة أو حكام كردفان أو وزراء الخرطوم أو وجهاء المجتمع وأهل المال المنفقين على الخلوة ،يكتفي بالسلام عليهم ثم الانصراف مباشرة ليعانق طلابه من جديد ، وهمه الأكبر أن لا تصطاده عدسة كاميرا تغافله لحظة مصافحة الضيوف .
يتولى إبنه الشيخ عبد الله وأهل الأسرة والمسيد مؤانسه ومجالسة الزوار من رئيس الدولة أو أي زائر آخر .
أما إكرامه الحاتمي لضيوفه فله فيه فتوحات يرويها زواره بما يشبه الأساطير .
ولعل أبلغ وصف لحال الشيخ أبوعزة في عنايته برعاية طلابه هو ما نسب لجاره ورفيق دربه الشيخ عبد الرحيم البرعي :
(الشيخ أبوعزة منجض زراعته يتولى رعاياه بنفسه فيخرجون كما يحب ، وغيره يشرك في رعايتهم آخرون )
وكأنه وحده المقصود بقولهم :
يذوب من رقة ولكن
تحفه هالة الجسور
يعاند الصخر مستذلا
بعزمه جبرة الصخور
إشتهرت للشيخ أبوعزة صور محدودة أخذت منه على حين غفلة ،فهو زاهد في الظهور عدوه الأول الكاميرات ،يهرب منها بالتخفي واسدال ثوبه عليه وطأطأة رأسه .
ومن هذه الصور النادرة المنتشرة غفوته وسط أواني طعام الطلاب ، يقف بنفسه ويشارك في صناعته ويتأكد من تناول كل الطلاب لوجباتهم.
وحينما يتأكد من تناول الجميع لوجبة العشاء يحمل بيدية أواني زيت السمسم الكردفاني الأصيل ليدهن به في برد الشتاء أجساد الطلاب الصغار ، وهو يرد من يريد أن يتولى ذلك عنه بأن هؤلاء الأطفال وديعة الله عندنا وأمانة أهلهم لدينا
وفي النهار يتولى بنفسه حلاقة شعرهم ومسه بالطيب الفاخر الذي يهديه إليه المحبون .
ومن بؤس نخب الخرطوم وجهالاتهم وجحودهم يأتيك من يقول بأن الخلاوي تستخدم العنف ضد الأطفال ، مستدلا بمثال واحد محدود ، متجاهلا ألف مثال كنموذج الشيخ أبوعزة .
لا ينام الشيخ أبوعزة إلا غلبة وعلى الأرض مباشرة غالبا ، ولا يقرب فاخر الأسرة اللهم إلا سريرا محلي الصنع يكاد يلامس الأرض . روى لنا إبنه الشيخ عبد الله بأنه حاول في أيام مرضه الأخير أن يقنعه بالنوم على سرير متواضع وعليه (لحاف ) خفيف .
فأجابه : يابني من ينام على السرير ويضع عليه فرشا وملاءة ووسادة ،فهذا ليس في نيته قيام ليل ولا ملازمة أوراد .
حقا هو من عناه الشاعر عبد الله الشيخ البشير وهو يصف نار القرآن وشيخها الساهر وطلابها :
زكت فألقت بهم ظلالا
بحائط الخلوة العتيق
وحولها فتية سهارى
جثوا لدى ساهر لبيق
مأكله قليل من خشن الطعام وكذلك ملبسه ، ولكنه ملك متوج على قلوب الملايين كأنه المعني بقولهم:
دثاره فاخر السجايا
وكبرياء الفتى الفقير
وإن في ناظريه عمقا
يشف عن مقصد كبير
حينما راجعه الأحباب في رمضان الأخير أن يفطر وقد اشتد به المرض وضعف الجسد فتوسلوا له بعلمه بفقه الرخصة ، ردهم بقوله : الرخصة ليست لي ، فالله تعالى بعد أن بين لأهل الرخص من المرضى والمسافرين قال ( وأن تصوموا خير لكم ) .
لا يتحدث عن نفسه أبدا ، وحينما تجرأ أحد ليسأله عن كرامة حدثت له ،قال: لا خصوصية عندي، وهنا جاء الرد من أحد تلاميذه العارفين : هل تبحث عن كرامة للشيخ وما فاتته تكبيرة الإحرام في هذا المسجد سبعين عاما ؟؟!!
ظل الشيخ أبوعزة ولقرن كامل مشمرا عن سواعد الجد والحزم والعزم ،صاحب رسالة لم يتوانى في بلاغها لحظة ، فروع خلاويه بلغت العشرات ،وخريجية عشرات الآلاف في السودان وبلاد إفريقية عديدة ،وخلف هؤلاء الألوف ألوف آخرين ، وهو الفقير إلا من الإيمان والبركة والتوفيق ووعد الله المنجز بحفظ القران على يد أهل الشرف والحظ العظيم .
العزاء لأمة الاسلام وأهل السودان وإفريقيا ولكل مصاحف الدنيا ولكل محب لكتاب الله .
والعزاء خالصا وخاصا للطريقة القادرية السمانية اليعقوباوية ولأهل المسيد وخلاوي القرآن كافة .
ورحمة الله على الشيخ أبوعزة أيقونة الصلاح والبركة والقدوة والزهد والذكر والتجرد والتواضع .
رحمة الله على الفقير الغني صاحب الوقت ومفخرة الإسلام .
وعوض الله الأمة والسودان والقران خيرا.
إنا لله وإنا إليه راجعون
اضغط للإنضمام إلى قروب الواتساب
إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 18 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 19 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 20 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 21 22إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 23 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 24 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 25 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 26 إضغط هنا للإنضمام لقروب الواتس 10